المجازر المعتمدة عند نقاط توزيع الطعام في غزة تمثل واحدة من أبشع صور الانتهاكات الإنسانية التي يشهدها العالم، ففي الوقت الذي يفترض أن تكون فيه أماكن توزيع الطعام ملاذًا آمنًا للمدنيين المجوعين، تحوّلت في غزة إلى مسرح دموي لمجازر متعمدة تستهدف الأبرياء الباحثين عن لقمة تسدّ رمقهم. إن هذه الانتهاكات، التي تتم تحت أنظار العالم، تكشف عن سياسة ممنهجة لتجويع الشعب الفلسطيني وقتله بدم بارد.
كيف تحوّلت طوابير الطعام إلى مجازر وساحات قتل؟
في مشهد يُجسّد أقسى صور المعاناة الإنسانية، تحوّلت طوابير توزيع الطعام في غزة إلى ساحات موت جماعي، حيث تُرتكب مجازر بحق الباحثين عن لقمة طعام، تحت نيران الاحتلال، حيث تستهدف فيها قوات الاحتلال المدنيين عمدًا وبشكل مباشر. لم يعد انتظار المساعدات الغذائية مجرد حاجة إنسانية، بل أصبح مخاطرة قد تنتهي بإصابة أو فقدان الحياة، وهذه الطوابير، التي يُفترض أن تكون أمل، تحوّلت إلى هدف مباشر للهجمات، حيث أنه في كل مرة تُعلن فيها جهة إنسانية عن توزيع مساعدات غذائية، يتجمّع الناس، أغلبهم من الأطفال والنساء وكبار السن بأمل الحصول على قوت يومهم، إلا أنهم يُفاجؤون بهجوم دموي، عبر قصف أو إطلاق نار عشوائي ومباشر. هذه المجازر ليست حوادث معزولة، بل سياسة ممنهجة تهدف إلى تجويع السكان، وكسر إرادتهم، ونشر الرعب في صفوفهم.
إن استهداف نقاط توزيع الغذاء يفضح مدى الإصرار على استمرار الحصار المشدد الذي يفرضه الاحتلال منذ سنوات، كما أنّ هذه الهجمات تؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية وتزيد من معدلات سوء التغذية، وحالات الوفاة بسبب الجوع، لا سيما بين الفئات الأكثر ضعفًا كالنساء والأطفال وكبار السن. وتُعد هذه العمليات استهدافًا مباشرًا لحق الإنسان في الحياة والكرامة، وفي ظل غياب رد فعل دولي فعال، يزداد الوضع مأساوية، ويُترك السكان أمام واقع مرير يهدد وجودهم ويُفاقم معاناتهم اليومية.
مجازر تستهداف جميع مقومات الحياة
تمر غزة بسلسلة من المجازر الوحشية التي لم تَعُد تقتصر على المواجهات العسكرية المباشرة، بل امتدت بشكل ممنهج لتطال جميع مقومات الحياة الأساسية، وتترك آثارًا كارثية على الإنسان والبنية التحتية على حد سواء. لم تعد الهجمات مقتصرة على مواقع محددة، بل امتدّت لتشمل المستشفيات، والمدارس، ومراكز الإيواء، وشبكات المياه والكهرباء، وحتى مخازن الغذاء، وهذا التدمير المنهجي يشير بوضوح إلى نية متعمدة لتفريغ الأرض من أهلها، والاستيلاء عليها، وحرمان السكان من الحد الأدنى من سبل العيش.
وفي ظل الحصار الخانق، تتعاظم الكارثة يومًا بعد يوم، حيث يواجه المدنيون صعوبات بالغة في الحصول على الرعاية الصحية، المياه النظيفة، والغذاء الكافي. حيث تحولت الحياة اليومية في غزة إلى معركة بقاء، وأصبحت المجاعة تهدد حياة آلاف العائلات، وتقضي على عديد منهم، خاصة مع استمرار التجويع الممنهج لأهل غزة من قبل الاحتلال الإسرائيلي.
مجازر تُوثّق بالصوت والصورة… شهادات أهل قطاع غزة
تحولت نقاط توزيع الطعام إلى ساحات مجازر كارثية، تستهدف فيها المدنيين المنهكين الباحثين عن لقمة تسد جوعهم، من أطفال ونساء وكبار السن ورجال، وتتكرر هذه الهجمات عند اقتراب الناس المجوعين من نقاط توزيع المساعدات. إن استهداف نقاط توزيع الطعام هو استهداف مباشر لحياة المدنيين وأبسط مقومات بقائهم، وتوثيق هذه المجازر بالصوت والصورة، وشهادات الناجين الذين يروون الألم، تشكل دليلاً قاطعًا على حجم الجرائم المرتكبة، ونداءً عاجلًا لوقف هذا النزيف، وضمان وصول المساعدات بأمان إلى كل محتاج دون خوف أو تهديد، فطوابير الطعام في غزة يجب أن تبقى منارة أمل، لا مسرحًا لمآسي لا تُحصى.
شهادات من الداخل:
يقول الصحفي أنس الشريف: “الناس يسقطون الآن في شوارع غزة من شدة الجوع، يسقطون على الأرض من شدة الجوع، وهذا المصاب الذي أصيب الآن لا يوجد له علاج، وهذا حال المواطنيون جميعًا في داخل القطاع، يسقطون على الأرض واحدًا تلو الأخر، يحتاجون إلى وجبة طعام واحدة، يحتاجون إلى رغيف خبز واحد، يحتاجون إلى شربة ماء.”
تقول شابة في قطاع غزة: “قضيت أسبوعًا كاملاً على كأس شاي، كأن جسدي بدأ ينسحب بهدوء وينسى نفسه، ويتخلى عن حاجاته شيئا فشيئا، أمشي قليلاً ثم أجلس طويلاً، يتوقف الجوع عن العض ليتحول إلى خدر يجعلك ميتًا وأنت على قيد الحياة بعد.”
مصعب الدِّيبس 14 عامًا، وزنه هبط من 40 كغ إلى 10 كغ، يرقد مُنهكًا في مستشفى الشفاء، تقول والدته: “غزة تعيش كارثة… لا طعام ولا حليب ولا دواء”، بينما يناشِد الأطباء إخراجه للعلاج قبل فوات الأوان.
يوسف الصفدي يبلغ ستة أسابيع، تُوفِّي جراء الجوع، عمه حمل جثمانه الهزيل في ممرات المستشفى، قائلًا إن الرضّاعة الأخيرة كانت منذ أيام.
رواية المُعلِّمة آلاء عرفات: “الجوع يفتك ببناتي الصغيرات وأقف عاجزة”، وتصف كيف فقدت ابنتا شقيقتها بصرهما موقتًا بعد أيام بلا طعام كافٍ.
هذه بعض من آلاف قصص المجوعين في غزة، حيث أن جميع السكان مجوعون لا يعرفون كيف يمكنهم الحصول على طعام لهم ولأطفالهم، يرى الأب عجزه أمام أطفاله المجوعين ولا يعرف كيف يستطيع تخفيف ألمهم، في حين أن الأم تشاهد طفلها الرضيع وهو يصرخ من شدة الجوع ولا يوجد حليب لإطعامه، ويقف الصحفي ويتابع عمله ونقل الحقيقة وهو على وشك الانهيار بسبب شدة الجوع. إن الجوع يتفك بأجساد الناس، وهذه الحرب الممنهجة لابد أن تتوقف، بين كل طابور وآخر، تُكتب مأساة جديدة. هذه القصص لا تنتهي، بل تتراكم يومًا بعد يوم.